نعيش في عصر مفتوح جداً بسبب التقدم التكنولوجي الذي نحياه , وهذا التقدُّم الشديد يتم عبر وسائل الإنترنت المختلفة .
فقد زاد إنتشار قنوات اليوتيوب بشكل مخيف , وزاد انتشار منشورات الفيس وغيرها من وسائل التواصل الإجتماعي بشكل مرعب .
هذا الإنتشار جعل العالم كله عبارة عن رقعة صغيرة أمام كل فرد منَّا ينظر إليه عبر شاشة محمولة باليد أو شاشة التليفزيون .
ولهذا الإنتشار منافع كثيرة من حيث زيادة تنوع الثقافات وزيادة المعرفة والاخبار المتنوعة لجميع الشعوب والثقافات .
لكن لهذا الإنتشار تأثيراً شديد السلبية على البناء النفسي والفكري والثقافي للمستخدمين لهذه الوسائل .
فبسبب انفتاح العالم عبر شاشة واحدة , إنتشرت الأمراض النفسية والقلق والتوتر , وأصبح القلق والتوتر والإكتئاب من الأمراض المعاصرة المنتشرة بكثرة .
فكيف يؤدي هذا الإنفتاح إلى أمراض القلب والإصابة بالتوتر والقلق والعديد من الأمراض النفسية ؟
في الحقيقة هناك أسباب عديدة أدت إلى هذه الأمراض من خلال هذا الإنفتاح , وسوف نقوم بالتركيز على بعض النقاط الهامة .
عدم الإكتفاء

الرغبة في النجاح , والرغبة في المزيد من النجاح والتقدم في أي مجال هو مفتاح النجاح في الحياة , ولكنه في نفس الوقت هو مفتاح لبوابة الأمراض النفسية المتعددة .
فرؤية حياة الآخرين وطريقة معيشتهم تجعلنا غير راضيين عن حالنا .
فالشخص الغني عندما يرى حياة الأغنى منه في فيديوهات وصور منتشرة على وسائل الإعلام والتواصل تجعله غير راضياً عن حالته المادية .
فيعيش حياته مكتئباً بسبب الضغوط النفسية والتي سببها أنَّه يسعى إلى أن يتفوق على هذا الشخص مادياً .
فيضطر إلى التنازل عن أفكاره وعن شخصيته وطموحاته وأفكاره من أجل أن يصل لهذا المستوى .
وبالطبع في الغالب لا يصل إلى هذا المستوى , لأنَّه أغفل عن قدراته وإمكانياته , فربما يستطيع أن يكون أغنى بطرق مختلفة , لكنَّه لايرى ذلك .
وحتى لو حقق الغنى المطلوب فلن يجد السعادة التي يريدها , لأنَّ أهدافه لن تتوقف عند هذا الحد من الغنى , لأنَّ الشخص الذي أراد أن يسير على خطاه قد ازداد ثراءاً مع مرور الوقت .
وفي المقابل تجد زوجته تريد منزلاً بمواصفات خاصة رأتها في العديد من وسائل التواصل , وحتى الأبناء لم يسلمو من هذه الدوامة .
وأقول أنَّها دوامة لأنَّها بالفعل دوامة لا نخرج منها , أنت عزيزي القارئ قد تكون داخل إحدى هذه الدوامات التي لا تتوقف .
وبعد ذلك نتعجب من الأسباب التي تجعلنا مكتئبين أو مضغوطين أو لا نشعر بالسعادة الحقيقية في حياتنا , سواء حياتنا الشخصية أو العائلية أو الزوجية أو العملية أو غيرها الكثير ….
فدائماً ما يكون لدينا هدف صعب التنفيذ لكننا نسعى لتحقيقه , وقد تحدثت كثيراً على الأهداف وضرورة السعي بإصرار وعزيمة من أجل تحقيقها .
لكن الإفراط في أي شيئ دائماً ماتكون نتائجه عكسية , فالإصرار على تحقيق الهدف يجب أن يسبقه تفتيش وتنقية .
وأقصد بالتفتيش والتنقية هو أن تفتش في هدفك الذي تسعى لتحقيقه إن كان قابلاً للتحقيق أم لا .
لأنَّ من أعظم مسببات الإكتئاب في حياتنا هو إحساسنا بالعجز عن تحقيق أحلامنا وأهدافنا .
والسبب في ذلك العجز هو أنَّنا نضع لأنفسنا أهدافاً أقوى من قدراتنا وإمكانياتنا , أو أقوى من مواهبنا .
الأهداف أقوى من قدراتنا

فعلى سبيل المثال لا الحصر ……
شابٌ وضع لنفسه هدف تعلٍّم لغة جديدة غير لغته الأم , ووضع لنفسه مدة شهرين لتعلُّم وإجادة وإتقان هذه اللغة .
وتنتهي الفترة التي وضعها لنفسه وهي الشهرين , فيجد نفسه أنَّه لم يُتقن هذه اللغة كما خطط , فيتعرض للحزن بسبب عدم قدرته على تحقيق هدفه .
مما يدفعه للإعتقاد بأنَّه فاشل وغبي , فيُحبط ويتوقف عن تعلُّم اللغة , بل ويقوده إحباطه إلى عدم فعل أي شيئ .
لإعتقاده بعدم قدرته على تعلم أي شيئ أو عدم تحقيق أي نجاح مطلوب .
مما يُزيد من وقت فراغه الذي لا يفعل فيه شيئ وتأخير حياته , وشعوره الداخلي بعدم النجاح وبعدم القدرة على تحقيقه , وهذا ما يقوده في النهاية إلى الإكتئاب .
فلو أنَّ هذا الشاب كان واقعياً مع قدراته ومع واقعه لكان أجاد اللغة , وكان ذلك سيلهمه الحماس والنشاط لتعلُّم أشياء أخرى , مما يؤدي في النهاية إلى تطور حياته وتحقيق نجاحات متعددة .
فليست الحياة بالتمني , وكل شيئ في الحياة له وقته , ويجب أن تأخذ كل الأمور وقتها الطبيعي لكي تتحقق .
فلا يمكن أن يتم بناء عمارة مكونة من إحدى عشر طابقاً في أسبوع واحد فقط , فوسائل النجاح وتحقيق أقصى إستفادة في أقل وقت هي وسائل يجب تعلمها .
لكن يجب الأخذ بالإعتبار بعدم محاربة الطبيعة والحياة , كمن يبذر بذور شجرة البرتقال وينتظر أن تنمو وتثمر في أسبوع واحد .
هذه معجزات خارج نطاق قدراتنا البشرية , والله تعالى الذي إن أراد شيئاً قال له كن , فيكون …
فقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا هذا الأمر في قوله تعالى ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ )
فلو أنَّ الله قال للسموات والأرض كونو لكانت , ولكنه تعالى يعلمنا أنَّ الحياة لها طبيعتها وتوقيتاتها وقوانينها التي لا نستطيع أن نخرج عنها .
ولو استطعنا أن نفعل ذلك لكنا حاربنا الموت ورفضناه , ولكن هذه سنة الله في خلقه .
فعليك أن تقرأ وتتعلم صناعة النجاح من العدم , لكن عليك أن تدرس إمكانية هذه الأهداف للتحقيق .
وتسير مع طبيعة الكون , لأنَّ من يسير عكس قوانين الطبيعة لا ينجو منها مهما كانت قوته أو قدراته .
فأي شخص يقول لك بأنَّك تستطيع تغيير الطبيعة والحياة من أجل تحقيق أهدافك فهو يخدعك .
عدم الإهتمام بما تملكه الآن

ومثال آخر لشاب كان محاسباً في إحدى الشركات , وقد تقلَّد في هذه الوظيفة العديد من المناصب حتى وصل إلى مدير حسابات .
لكنَّه كان يرى بعض أصدقائه يعملون في مجال التسويق والمبيعات في إحدى الشركات الأخرى , وكانت حياتهم المادية ميسورة جداً بسبب أرباحهم من المبيعات التي يحققونها .
كانو يقصون القصص أمامه , مما دفعه لإتخاذ قرار بالإستقالة من وظيفته والتقدُّم للعمل في التسويق , وبالفعل إنضم إلى فريق العمل بهذه الشركة الجديدة .
ومرت ستة أشهر دون أن يحقق أي أرباح , وتوصَّل متأخراً إلى فهم حقيقة أنَّ قدراته في المحاسبة أقوى بكثير من قدراته التسويقية .
فرجل المبيعات والتسويق يجب أن يتمتع بمهارة ولباقة معينة لإقناع العملاء , وهو لا يمتع بها , على عكس مهاراته المتقدمة في الحسابات والادارة المالية .
والنتيجة أنَّه قرر العودة لوظيفته السابقة والتي كان يحصل منها على راتب يتمناه المسوقين , فقد كان بعض أصدقاءه المسوقين يتمنون العمل براتب مرتفع وثابت .
عاد هذا الشاب لوظيفته السابقة لكن بدون منصبه السابق , وبراتب أقل بكثير من راتبه قبل الإستقالة , وأصبح من كان مديراً عليهم , هم اليوم مديرين عليه .
فقد خسر مكانته المهنية والمادية , وخسر عمله التسويقي أيضاً , فقد كان أمامه فرصة ذهبية للتقديم في دورات تساعده على تنمية مهاراته في التسويق , وقراءة الكتب التي تساعده على ذلك .
لكن دوامة الحياة هي التي تتحكم فيه , وجعلته يرى ما ليس بيديه , مما جعلته يفقد التقدُّم في أي من الوظيفتين .
وهذا من أضرار التوسع الإجتماعي الذي نحياه , حيث أننا جميعاً نسعى أن نكون أشخاصاً آخرين , ونسعى لامتلاك مايمتلكه الآخرين دون التمعن فيما نملكه .
فأغلبنا نسعى أن تكون حياتنا وظروفنا غير التي نحياها , مهما كان ما نملكه فإننا لانراه , بل نرى ما ليس بمقدورنا إمتلاكه .
وإن ملكناه فإننا نسعى لإمتلاك غيره مما ليس في متناولنا .
الفراغ وأضراره

ومن الأسباب القوية جداً في تفشي ظاهرة الإكتئاب في حياتنا ( الفراغ )
فالفراغ هو أقوى قاتل لسعادتنا وذكائنا وصحتنا , فالفراغ يقتل أفضل ما في الإنسان , لأنَّه يجعل العقل والجسد في حالة ( عدم الإستعمال ) .
فمن يعتقد بأنَّ الراحة هي السعادة فهو مخطئ جداَ , فالعمل وإشغال العقل والجسد هو بوابة السعادة والصحة النفسية والعقلية والجسدية .
وهذا لا يتعارض من أن ينال الإنسان الراحة , بل يجب أن تنال الراحة والترفيه , لكن الخطأ أن تبالغ في الراحة والرفاهية .
ومن أكثر الأشياء التي تؤدي إلى الفراغ :- الإفراط في تصفح مواقع التواصل الإجتماعية ومشاهدة الفيديوهات وتصفح الأخبار الغير هامة .
فإشغال عقلك بما لا ينفعك من هذا التصفح والفيديوهات يعمل على تكاسل عقلك وإهماله , فيقل مستوى ذكائك ويقل تركيزك .
فالإفراط في التصفح يعمل على خلق نشوة في الدماغ , هذه النشوة تجعلك تدمن هذه الفيديوهات والتصفح العام .
والضرر ليس في الإدمان فقط , رغم كارثية هذا الأمر , وإنما الضرر الحقيقي هو أن تعيش في عالم خيالي لا علاقة له بالواقع , وهذا هو أقوى درجات الإدمان .
فإستخدام هذه الوسائل بإفراط تجعلك ترفض الواقع الذي تعيشه وتجبرك على الدخول في عالم افتراضي مليئ بالأوهام التي تحقق لك السعادة الزائفة المؤقتة .
هذه السعادة الزائفة تتوقف عند التوقف عن التصفح , مما يجعلك تعود إليها مسرعاً متلهفاً لإكمال سعادتك الزائفة .
كما أنَّ من مخاطرها أنَّها تجعلك تهمل في حياتك الواقعية , فتتحطم علاقاتك الإجتماعية وعلاقاتك الأسرية , وتهمل عملك ودراستك أو تؤديهم بدون تركيز وبدون تحقيق نجاح فيهم .
رسالة وتنبيه

فإفراط إستخدام هذه الوسائل تسرق منك حياتك العائلية والإجتماعية والعملية والفكرية والثقافية .
لا تنعزل عن هذه الوسائل , بل عاصرها وتعامل معها لمواكبة عصرك , ولكن كن معتدلا في إستخدامها وأحسن استخدامها .
فالآن توجد العديد من الفيديوهات والمقالات والمنشورات المفيدة التي تمدك بالمعلومات القيمة وتساعدك في حياتك .
فالأمر يعود إلى كيفية إستخدام هذه الوسائل , وكمية الوقت التي تستخدمها , وبكيفية التفاعل معها , وذلك حتى لا تؤثر على حياتك بالسلب .
إستخدم هذه الوسائل بما ينفعك وما يعود عليك منه بأي ربح , سواء معلومة أو دورة تدريبية , أو قراءة مقالات أو فيديوهات تعليمية أو ثقافية أو فكرية .
تابعونا لقراءة العديد من المقالات الملهمة للنجاح في مدونة استيقظ
مواقع التواصل الاجتماعي قامت بتدمير العلاقات الاجتماعية